فصل: تفسير الآية رقم (116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ}: إمَّا هنا للتخيير، ويطلق عليها حرف عطف مجازًا.
قال المفسرُون: تأدَّبوا مع موسى عليه السلام فكان ذلك سبب إيمانهم.
قال الفرَّاءُ والكسائِيُّ في باب أمّا: وإمّا إذا كنت آمرًا أو ناهيًا أو مخبرًا فهي مفتوحة، وإذا كنت مشترطًا أو شاكًّا أو مخيرًا فهي مكسورةٌ، تقول في المفتوحة: إمّا اللَّه فأعْبُدْه، وأما الخمرُ فلا تَشْرَبها وأما زيد فقد خَرَجَ، فإن كنت مشترطًا فتقول: إمّا تعطينَّ زيدًا فإنه يشكرك قال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم} [الأنفال: 57]، وتقولُ في الشَّكِّ: لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو، وتقولُ في التَّخْيير: لي في الكوفة دارٌ إما أن أسْكُنَهَا وإمَّا أن أبيعها.
والفرق بين إمّا إذا كانت للشكِّ وبين أو أنك إذا قلت: جاءني زَيْدٌ أو عمرو فقد يجوزُ أن تكون قد بنيت كلامك على اليقينِ ثم أدركك الشّك فقلت: أو عمرو، فصار الشك فيهما، فأوَّلُ الاسمين في أو يجوز أن يحسن السكوت عليه، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر؛ ألا ترى أنَّكَ تَقُولُ: قام أخُوكَ وتسكت ثم تشكُّ فتقول: أو أبوك.
وإذا ذكرت إمّا فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك، فلا يجوز أن تقول: ضربت إمَّا عبد الله وتسكت.
وفي محل: {أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ} ثلاثة أوجه:
أحدها: النصب بفعلٍ مقدَّر أي: افعل إمَّا إلقاءك وإما إلقاءنا، كذا قدّره أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّهُ لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلًا لائقًا بذلك وهو اختر أي: اختر إمَّا إلقاءك وإمّا إلقاءنا.
وقدره مكي وأبو البقاءِ فقالا: إمَا أن تَفْعَلَ الإلقاء.
قال مَكِّيٌّ: كقوله: [البسيط]
قَالُوا الرُّكُوبَ فَقُلْنَا تِلْكَ عَادَتُنَا

بنصب الركوب إلا أنَّهُ جعل النَّصْبَ مذهب الكوفيين.
الثاني: الرفع على خبر ابتداءٍ مضمر تقديره: أمْرُك إمَّا إلقاؤك وإما إلقاؤُنا.
الثالث: أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره إمَّا لقاؤك مبدوءٌ به، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به.
فإن قيل: كيف دخلت أن في قوله: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ} وسقطت من قوله: {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106].
فالجواب قال الفراء: دخول أن في إما في هذه الآية لأنها في موضع الأمر بالاختيار، وهي في موضع نصب كقولك: اختر ذا أو ذا، كأنَّهُم قالوا: اختر أن تلقي أو نلقي، وفي آية التَّوْبَةِ ليس فيها أمر بالتخيير؛ ألا ترى أنَّ الأمر لا يَصْلُحُ هاهنا فلذلك لم يكن فيه أن
وقال غيره: إنَّما أتى هنا بأن المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106].
لأن أن وما بعدها هنا: إمّا مفعول به أو مبتدأ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلًا صريحًا، بل لابد أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسمٍ، وأما آية التَّوبةِ فالفعلُ بعد إمّا خبر ثان لآخرُونَ، وإمَّا صفة له، والخبرُ والصِّفةُ يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري.
وحذف مفعولُ الإلقَاءِ للعلم به والتقدير: إمَّا أن تُلْقي حبالَكَ وعِصِيَّك- لأنَّهُم كانوا يَعْتَقِدُونَ أن يفعل كفعلهم- أو نلقي حبالنا وعصِيَّنا. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (116):

قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما فهم موسى عليه السلام مرادهم مما عبر هذا النظم عن حقيقة معناه من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل، وكان واثقًا من الله تعالى بما وعده به جاريًا مع مراده، لا فرق بين أن يتقدم أو يتأخر؛ أجابهم إلى سؤالهم.
وهو أوقع في ازدراء شأنهم، فاستأنف سبحانه الخبر عنه بقوله: {قال ألقوا} أي أنتم أيها السحرة ما تريدون إلقاءه، وهو أمر تعجيز.
ولما أذن لهم بادروا إلى ذلك كما أفهمه العطف بالفاء في قوله: {فلما ألقوا} أي ما أعدوه للسحر {سحروا أعين الناس} أي عن صحة إدراكها حتى خيلوا إليها ما لا على بعض، وبعثوا جماعة ينادون: أيها الناس احذروا {واسترهبوهم} أي وأوجدوا رهبتهم إيجاد راغب فيها طالب لها غاية الطلب.
ولما قيل ذلك، كان ربما ظن أنهم خافوا مما لا يخاف من مثله، فقال تعالى مبينًا أنهم معذورون في خوفهم: {وجاءو بسحر عظيم} قال صاحب كتاب الزينة: والسحر على وجوه كثيرة، منه الأخذ بالعين، ومنه ما يفرق به بين المرء وزوجه، ومنه غير ذلك، وأصله مأخوذ من التعلل بالباطل وقلب الأمر عن وجهه كما ذكرنا من لغة العرب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولًا وأظهروا ما يدل عى رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام: ألقوا ما أنتم ملقون وفيه سؤال: وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر وذلك كفر والأمر بالكفر كفر، وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول ألقوا؟
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس}.
واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه.
قال القاضي: لو كان السحر حقًا، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم؟ فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالًا عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه.
قال الواحدي: بل المراد سحروا أعين الناس، أي قلبوها عن صحة أدراكها بسبب تلك التمويهات، وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدًّا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها.
وأما قوله: {واسترهبوهم} فالمعنى: أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي.
قال المبرد: {استرهبوهم} أرهبوهم، والسين زائدة.
قال الزجاج: استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك: أيها الناس احذروا، فهذا هو الاسترهاب.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى، فأوحى الله عز وجل إليه {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} قال المحققون: إن هذا غير جائز، لأنه عليه السلام لما كان نبيًا من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف.
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: {فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67].
قلنا: ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم.
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم: {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} روي أن السحرة قالوا قد علمنا سحرًا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرًا من السماء، فإنه لا طاقة لنا به.
وروي أنهم كانوا ثمانين ألفًا.
وقيل: سبعين ألفًا.
وقيل: بضعة وثلاثين ألفًا.
واختلفت الروايات، فمن مقل ومن مكثر، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد. اهـ.

.قال السمرقندي:

{قَالَ} لهم موسى {أَلْقَوْاْ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} يعني: السحرة ألقوا الحبال والعصي {سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} أي أخذوا أعينهم بالسحر {واسترهبوهم} يعني: طلبوا رهبتهم حتى رهبهم الناس.
قال الكلبي: كانت السحرة سبعين فألقوا سبعين عصا وسبعين حبلًا.
وقال بعضهم: كانوا اثنين وسبعين حبلًا.
وروى أسباط عن السدي قال: قال ابن عباس كانوا بضعًا وثلاثين ألفًا.
وقال محمد بن إسحاق: كانوا ألف رجل وخمسمائة رجل ومع كل واحد منهم عصا: وقد كانوا خاطوا الحبال وجعلوها مموهة بالرصاص وحشوها بالزئبق حتى إذا ألقوها تحركت كأنها حيات، لأن الزئبق لا يستقر في مكان واحد، فلما طلعت عليه الشمس صارت شبيهًا بالحيات فنظر موسى فإذا الوادي قد امتلأ بالحيات، فدخل فيه الخوف، ونظر الناس إلى ذلك فخافوا من كثرة الحيات.
فذلك قوله: {واسترهبوهم} يعني: أفزعوهم وأخافوهم {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} يعني: بسحر تام.
ويقال: {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} يعني: بقول عظيم حيث قالوا: {فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] ويقال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} حيث قالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {سحروا أعين الناس}.
نص في أن لهم فعلًا ما زائدًا على ما يحدثونه من التزيق والآثار في العصا وسائر الأجسام التي يصرفون فيها صناعتهم {واسترهبوهم} بمعنى أرهبوهم أي فزعوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس، ووصف الله سحرهم بالعظم، ومعنى ذلك من كثرته، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيرًا موقرة بالحبال والعصي فلما ألقوها تحركت وملأت الوادي يركب بعضها بعضًا، فاستهول الناس ذلك واسترهبوهم، قال الزجاج: قيل إنهم جعلوا فيها الزئبق فكانت لا تستقر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ أَلْقَوْاْ} غيرَ مبالٍ بأمرهم أي ألقوا ما تُلقُون {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} ما ألقَوْا {سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} بأن خيّلوا إليهم ما لا حقيقةَ له {واسترهبوهم} أي بالغوا في إرهابهم {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في بابه. روي أنهم ألقَوا حِبالًا غلاظًا وخشَبًا طِوالًا كأنها حياتٌ ملأت الواديَ وركِبَ بعضُها بعضًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}.
{قَالَ} أي موسى عليه السلام وثوقًا بشأنه وتحقيرًا لهم وعدم مبالاة بهم {أَلْقَوْاْ} أنتم ما تلقون أو لا، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال: إن إلقاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لابد وأن يفعلوا ذلك، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى: {أَوَّلَ مَنْ ألقى} [طه: 65] فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة، وقد يقال أيضًا: إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفرة بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا ما قالوا سمع موسى عليه السلام مناديًا يقول؛ بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} ما القوا وكانمع كل واحد منهم حبل وعصا {سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا الناس فالآية على حد قوله جل شأنه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] {واسترهبوهم} أي أرهبوهم إرهابًا شديدًا كأنهم طلبوا إرهابهم {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في بابه، يروى أنهم ألقوا حبالًا غلاظًا وخشبًا طوالًا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضًا.
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلًا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصى زئبقًا أيضًا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات.
واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشيء على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى.
نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمر والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وانطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر. اهـ.